السبت، 15 أغسطس 2009

لماذا تحولت كلمة «فيلسوف» إلى شتيمة؟!

استمعْ إلى شجار بين اثنين امام محطة للوقود، أو اصغ لما يقوله موظف كسول وهو خارج من غرفة مديره بعد تأنيبه، أو قفْ في أي مشهد يمتعض فيه طرف من طرف، ستسمع داخل عبارات الاستياء وصفاً للحديث غير المرضى ولا المقنع بأنه (فلسفة) وأن قائله (يتفلسف).
استمعْ إلى شجار بين اثنين امام محطة للوقود، أو اصغ لما يقوله موظف كسول وهو خارج من غرفة مديره بعد تأنيبه، أو قفْ في أي مشهد يمتعض فيه طرف من طرف، ستسمع داخل عبارات الاستياء وصفاً للحديث غير المرضى ولا المقنع بأنه (فلسفة) وأن قائله (يتفلسف).
إن الفلسفة في المخيال الشعبي العامي لاتعني أكثر من مجرد كلام فارغ، باتت معه صفة تطلق على مالا يفهم، وعلى ما لا يمكن استيعابه، بل على كل كلام يراد إعابته أو وصفه بعدم الجدوى، فكيف اكتسبت الفلسفة هذا المفهوم السلبي ولماذا باتت وصفا شعبيا غير حميد؟.
بالتأكيد ان من ستجده غاضباص من حديث أحد ما ويصفه في إطار التشنيع والتسفيه بأن حديثه فلسفة لايعرف شيئا عن ماقامت به الفلسفة من تقعيد للنظريات التي تقف خلف ازدهار العالم، وهو بالتأكيد لايعرف أفلاطون ولا أرسطو ولا ابن رشد ولا الفارابي، ولايدرك ان العلوم الحديثة انطلقت في الاصل من نظريات فلسفية، ولايمكن له أن يربط بين طاقة الحركة الفيزيائية في سيارته وبين القواعد الفلسفية التي وقفت خلف كل هذا، بل إن هذا غير مطلوب منه، وعدم معرفته بكل هذا لايعد عيبا، ولكن لماذا لايأخذ العوام الفلسفة إلا كوصف سلبي ومشين.
في التاريخ إحالات ومواقف متعددة يمكن أن تظهر حالات من المواجهة الكلامية للكلام، وقبل أن يعرف العرب الفلسفة اصطدموا أول الأمر بالقرآن الكريم ككلام يجري على غير ما ألفوه، ولم يجدوا لصده وتعليل عدم فهمه سوى وصفه بما يمكن أن يأخذ صفاته من اعتماده على فنيات وبلاغيات متعددة فوصفوه بأنه شعر وبأنه كلام كهان وسحرة، وهذه المواجهة إنما تعني تبريراً لمسألة عدم الفهم لا بكونها ناتجة عن قصور في إدراكهم وإنما يحيلونها إلى طبيعة ما يقال فالعلة وسبب عدم الفهم هو القول لامستقبلوه، واستخدام الشعر في مواجهة القرآن هو الذي أدى بعد ذلك إلى تراجع موقع الشعر في عصر صدر الإسلام، ولم يعد إليه اعتباره إلا مع بداية العصر الأموي.
لكن ما بعد ذلك تعرفت الثقافة العربية على نماذج من الفعل الثقافي والتنظيري جاء نتيجة تواصلها مع الثقافات والمعارف غير العربية وظهر علم المنطق وعلم الكلام ولكن سوء حظها أنها دخلت ضمن جدالات دينية وعقائدية وقفت خلفها الارتباطات السياسية لبعض الفقهاء كعوامل قوة لبعضها وإضعاف لبعضها الآخر، إضافة إلى أن الموقف التقليدي الذي تتخذه الثقافة العربية من كل منجز جديد ساهم كذلك في خفوت هذا الصوت، ولم تعش الفلسفة طويلا في الثقافة العربية إلا كمادة للقدح والذم والتحذير، وهو مشابه لما حدث من موجات تحديثية في الشعر العربي في العصر العباسي حيث واجهه رفض قوي وتسفيه واتهام لما يكتب بأنه ليس من الشعر.
الذين يقرأون عن نتف الفلسفة والفلاسفة في الثقافة العربية يجدون انفسهم أمام نماذج لضحايا أكثر من كونهم أمام نماذج لإنجازات معرفية، ومقولات مثل (من تمنطق فقد تزندق) وقول الشاعر:
نهاية إقدام العقول عقال
واخر سعي العاملين ضلال
كلها مقولات جاءت وفق الشكل العربي (مسجوعات / شعر / فواصل كلامية) الأبرز في مواجهة كل ما لاترغبه الثقافة، وعبارة من تمنطق فقد تزندق، تمثل قمة المواجهة بسبب أن علوم المنطق تمت مجابهتها من خلال مناظير عقدية، وبسبب أن الفرق الأبرز إنتاجاً لهذه المعارف كانت تهتم بالبحث في مسائل دينية وعقدية، وتاريخ المعتزلة وما تعرضوا له من بطش وظلم هو أكبر أشكال المواجهة مع الخطابات التقليدية في الثقافة.
بل إن مصير كثير من الكتاب والفلاسفة، (مصير ابن المقفع مثلا) ممن كانوا يربطون على ظهور الحمير وتقلب وجوههم ويدار بهم في بغداد وينادى بأنهم مناطقة زنادقة يمثل حالة من إشاعة المواجهة والتشهير بهذا الرفض، وحالات القتل وإحراق الكتب كلها مواقف جعلت الحركة الفلسفية في الثقافة العربية مجرد مواقف واجتهادات فردية ومؤلفات خائفة لم تستطع أن تمثل سياقا ثقافيا، وبنظرة مقارنة إلى الثقافات التي ازدهرت وتطورت لايمكن إلا إعادة ماهي عليه من ازدهار وتطور إلى ماسبقه من أداء ودرس فلسفي واسع وكبير وشامل، والنظرية الفلسفية هي الاصل الذي قامت عليه كل الحضارات، ولكن المشهد في الثقافة العربية يختلف تماما.
لقد ظل السياق الشعبي متأثراً للغاية بكل ماهو قريب من متناوله وصالح لفهمه، وساهم الوعظ والارتباك النظري الذي عاشته المعرفة العربية الحديثة في إبقاء وترويج ذات الصورة السلبية عن الفلسفة، من خلال ازدهار خطابات لاتعترف بمثل هذه الفعاليات العقلية وإنما تعتمد على المدون والمنقول، إضافة إلى غياب الدرس الفلسفي عن العملية التعليمية العربية غالبا (امتدت المواجهة لتشمل التقنيات الحديثة في القصيدة العربية الجديدة واخذت تمنح صفات مشابهة لصفات الفلسفة) ..
الآن.. ماذا تعني الفلسفة لدى طلاب التعليم العام في مختلف المراحل، لاشك أنها ليست من حديث معلم يحكي عن ضرورة الاجتهاد، ولا يقبل اعذار تأخير الفروض المنزلية.
إن الفلسفة في المخيال الشعبي العامي لاتعني أكثر من مجرد كلام فارغ، باتت معه صفة تطلق على مالا يفهم، وعلى ما لا يمكن استيعابه، بل على كل كلام يراد إعابته أو وصفه بعدم الجدوى، فكيف اكتسبت الفلسفة هذا المفهوم السلبي ولماذا باتت وصفا شعبيا غير حميد؟.
بالتأكيد ان من ستجده غاضباص من حديث أحد ما ويصفه في إطار التشنيع والتسفيه بأن حديثه فلسفة لايعرف شيئا عن ماقامت به الفلسفة من تقعيد للنظريات التي تقف خلف ازدهار العالم، وهو بالتأكيد لايعرف أفلاطون ولا أرسطو ولا ابن رشد ولا الفارابي، ولايدرك ان العلوم الحديثة انطلقت في الاصل من نظريات فلسفية، ولايمكن له أن يربط بين طاقة الحركة الفيزيائية في سيارته وبين القواعد الفلسفية التي وقفت خلف كل هذا، بل إن هذا غير مطلوب منه، وعدم معرفته بكل هذا لايعد عيبا، ولكن لماذا لايأخذ العوام الفلسفة إلا كوصف سلبي ومشين.
في التاريخ إحالات ومواقف متعددة يمكن أن تظهر حالات من المواجهة الكلامية للكلام، وقبل أن يعرف العرب الفلسفة اصطدموا أول الأمر بالقرآن الكريم ككلام يجري على غير ما ألفوه، ولم يجدوا لصده وتعليل عدم فهمه سوى وصفه بما يمكن أن يأخذ صفاته من اعتماده على فنيات وبلاغيات متعددة فوصفوه بأنه شعر وبأنه كلام كهان وسحرة، وهذه المواجهة إنما تعني تبريراً لمسألة عدم الفهم لا بكونها ناتجة عن قصور في إدراكهم وإنما يحيلونها إلى طبيعة ما يقال فالعلة وسبب عدم الفهم هو القول لامستقبلوه، واستخدام الشعر في مواجهة القرآن هو الذي أدى بعد ذلك إلى تراجع موقع الشعر في عصر صدر الإسلام، ولم يعد إليه اعتباره إلا مع بداية العصر الأموي.
لكن ما بعد ذلك تعرفت الثقافة العربية على نماذج من الفعل الثقافي والتنظيري جاء نتيجة تواصلها مع الثقافات والمعارف غير العربية وظهر علم المنطق وعلم الكلام ولكن سوء حظها أنها دخلت ضمن جدالات دينية وعقائدية وقفت خلفها الارتباطات السياسية لبعض الفقهاء كعوامل قوة لبعضها وإضعاف لبعضها الآخر، إضافة إلى أن الموقف التقليدي الذي تتخذه الثقافة العربية من كل منجز جديد ساهم كذلك في خفوت هذا الصوت، ولم تعش الفلسفة طويلا في الثقافة العربية إلا كمادة للقدح والذم والتحذير، وهو مشابه لما حدث من موجات تحديثية في الشعر العربي في العصر العباسي حيث واجهه رفض قوي وتسفيه واتهام لما يكتب بأنه ليس من الشعر.
الذين يقرأون عن نتف الفلسفة والفلاسفة في الثقافة العربية يجدون انفسهم أمام نماذج لضحايا أكثر من كونهم أمام نماذج لإنجازات معرفية، ومقولات مثل (من تمنطق فقد تزندق) وقول الشاعر:
نهاية إقدام العقول عقال
واخر سعي العاملين ضلال
كلها مقولات جاءت وفق الشكل العربي (مسجوعات / شعر / فواصل كلامية) الأبرز في مواجهة كل ما لاترغبه الثقافة، وعبارة من تمنطق فقد تزندق، تمثل قمة المواجهة بسبب أن علوم المنطق تمت مجابهتها من خلال مناظير عقدية، وبسبب أن الفرق الأبرز إنتاجاً لهذه المعارف كانت تهتم بالبحث في مسائل دينية وعقدية، وتاريخ المعتزلة وما تعرضوا له من بطش وظلم هو أكبر أشكال المواجهة مع الخطابات التقليدية في الثقافة.
بل إن مصير كثير من الكتاب والفلاسفة، (مصير ابن المقفع مثلا) ممن كانوا يربطون على ظهور الحمير وتقلب وجوههم ويدار بهم في بغداد وينادى بأنهم مناطقة زنادقة يمثل حالة من إشاعة المواجهة والتشهير بهذا الرفض، وحالات القتل وإحراق الكتب كلها مواقف جعلت الحركة الفلسفية في الثقافة العربية مجرد مواقف واجتهادات فردية ومؤلفات خائفة لم تستطع أن تمثل سياقا ثقافيا، وبنظرة مقارنة إلى الثقافات التي ازدهرت وتطورت لايمكن إلا إعادة ماهي عليه من ازدهار وتطور إلى ماسبقه من أداء ودرس فلسفي واسع وكبير وشامل، والنظرية الفلسفية هي الاصل الذي قامت عليه كل الحضارات، ولكن المشهد في الثقافة العربية يختلف تماما.
لقد ظل السياق الشعبي متأثراً للغاية بكل ماهو قريب من متناوله وصالح لفهمه، وساهم الوعظ والارتباك النظري الذي عاشته المعرفة العربية الحديثة في إبقاء وترويج ذات الصورة السلبية عن الفلسفة، من خلال ازدهار خطابات لاتعترف بمثل هذه الفعاليات العقلية وإنما تعتمد على المدون والمنقول، إضافة إلى غياب الدرس الفلسفي عن العملية التعليمية العربية غالبا (امتدت المواجهة لتشمل التقنيات الحديثة في القصيدة العربية الجديدة واخذت تمنح صفات مشابهة لصفات الفلسفة) ..
الآن.. ماذا تعني الفلسفة لدى طلاب التعليم العام في مختلف المراحل، لاشك أنها ليست من حديث معلم يحكي عن ضرورة الاجتهاد، ولا يقبل اعذار تأخير الفروض المنزلية.